كيف تفكك العالم العربي؟ ( 3): الغزو الأميركي للعراق.. بداية الخراب

واشنطن: سكوت أندرسون

نواصل  لليوم الثالث على التوالي نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي بعد غزو العراق»، في تحقيق استقصائي مطول لمجلة «نيويورك تايمز» كتبه سكوت أندرسون وبعدسة باولو بيليغرين، وفي الحلقة الثالثة اليوم يركز التحقيق على قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق الذي كان بداية الخراب على المنطقة قبل 13 عاما، مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي وبزوغ أزمة النازحين العالمية. وقدمت مجلة «نيويورك تايمز» تحقيقها الاستقصائي في خمسة أجزاء وهي «الجذور» و«حرب العراق» و«الربيع العربي» و«صعود داعش» و«الهجرة الجماعية».. وتحكي التطورات التي شهدتها المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، مرورا بالحروب الطائفية ثم اندلاع ثورات الربيع العربي وصعود التنظيمات الإرهابية في المنطقة. وتمنح قصة أندرسون المؤلفة من أكثر من 40 ألف كلمة على مدار 18 شهرا من العمل الصحافي الميداني القارئ إحساسا عميقا بالخراب والكارثة وكيف تكشفت أماراتها من خلال عيون ست شخصيات من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق.

في حلقة اليوم يركز كاتب التحقيق الاستقصائي سكوت أندرسون على العراقية خلود الزيدي، باعتبارها الثانية بين ستة أطفال، ثلاثة أولاد وثلاث بنات، ولدت خلود الزيدي لأب يعمل اختصاصي أشعة بأحد المستشفيات وأم ربة منزل. نشأت خلود في أسرة من الطبقة المتوسطة، لكن شأن غيرها من غالبية البنات بمدينة الكوت، يبلغ عدد سكانها نحو 400 ألف نسمة وتبعد 100 ميل عن بغداد على امتداد نهر دجلة، عاشت خلود حياة شملت مزيجا من العزلة والصرامة؛ فكانت تذهب للمدرسة يوميا وتعود للبيت مباشرة لتساعد أمها في عمل البيت قبل أن تبدأ المذاكرة. باستثناء وقت المدرسة، نادرا ما ابتعدت خلود عن البيت إلا لحضور المناسبات العائلية أو لمساعدة والدتها وأختها الكبرى في شراء مستلزمات البيت من البقالة. وخلال سنوات عمرها الثلاث والعشرين، لم تغادر خلود بلدتها سوى مرة واحدة في رحلة إلى بغداد ليوم واحد برفقة والدها.

ونظرا لطموحها الكبير للخروج من النطاق الضيق الذي ولدت فيه، كانت خلود تتطلع دوما للخروج من عزلتها بمدينة الكوت، وركزت كل طاقتها في اتجاه واحد فقط ليؤدي بها للطريق الذي تنشده، وهو مواصلة تعليمها العالي، وكان والدها هو معينها في سبيل تحقيق ذلك الهدف. كان علي الزيدي مصمما على حصول جميع أطفاله، بمن فيهم بناته الثلاث، على درجة جامعية، حتى وإن كان مصير البنات سيظل مجهولا بعد إكمالهن للدراسة.

«كان والدي تقدميا بدرجة كبيرة»، وفق خلود، مضيفة «لكن حتى بالنسبة له، لم يكن الهدف من الالتحاق بالكلية الحصول على عمل بعد ذلك، لكن كانت الفكرة هي أن نذاكر باجتهاد ونحصل على الشهادة ثم العثور على الزوج»، قالتها بينما تهز كتفيها، مضيفة «هذا ما كان معتادا في العراق». حصلت خلود على مؤهل جامعي في الأدب الإنجليزي، من جامعة محلية، لكن المتوقع كان أن تعمل خلود كمدرسة بإحدى المدارس لعدة سنوات بعد حصولها على الشهادة، ثم تتزوج لتنشئ عائلة. كان لخلود تخطيط آخر، هو أن تذهب إلى بغداد للبحث عن عمل كمترجمة لدى شركة أجنبية من تلك الشركات التي كانت تعمل حينها في العراق.

بيد أن تلك الخطة تغيرت بعد ثلاثة شهور من تخرجها من الجامعة، حيث غزا الأميركان العراق. ففي صبيحة 3 أبريل (نيسان) 2003، وصلت المعارك مدينة الكوت، وحاصرت فرقة التدخل السريع الأولى من البحرية الأميركية المدينة، وفي خلال ساعات معدودة حطمت المتاريس والحواجز العراقية واحدا تلو الآخر، وانتشرت الدبابات والعربات المدرعة على الأرض بدعم جوي من فوقهم. سمعت خلود الكثير عن تلك المعركة التي جرت في مدينتها، إلا أنها لم ترَ شيئا بعينيها، وكان لذلك تفسير بسيط. «وهو أن النساء لم يكن مسموح لهن بمغادرة البيت»، وفق خلود.

قبل الغزو، توقع نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، أن «يتلقى الأميركان التحية كمحررين» للعراق، وتحققت توقعاته في شوارع الكوت في 4 أبريل.

ومع إحكام قوات المارينز قبضتها على المدينة، كان الجنود يحاطون بأعداد غفيرة من الشباب والأطفال الذين قدموا لهم الحلوى والشاي الساخن. وفي النهاية سمح لخلود بمغادرة البيت شأن غيرها من غالبية النساء بالمدينة لترى ذلك المشهد ولو من بعيد. «كان الأميركيون مسترخين بدرجة كبيرة، وودودين، لكن أكثر ما لفت انتباهي كانت ضخامة أحجامهم وكذلك ضخامة أسلحتهم ومركباتهم. كل شيء بدا خارقا للعادة، وكأننا تعرضنا لغزو من كوكب آخر».

وفي الوقت الذي استمرت فيه المعارك المتقطعة في باقي الأماكن من قبل فلول صدام حسين وحكومته البعثية، كانت قوات التحالف التي بقيت في مدينة الكوت في ذلك الربيع وبداية الصيف تشعر بقدر كبير من الأمان للدرجة التي جعلتهم يتجولون فيها بحرية من دون دروع واقية من الرصاص وسط السكان وحتى مركباتهم كانت تجوب الشوارع من دون حماية. أعاد هؤلاء الجنود المدينة سريعا إلى وضع شبه طبيعي، وفتحت الجامعة أبوابها من جديد بعد فترة توقف دامت شهرين وحصلت خلود على شهادتها الجامعية في أغسطس (آب) من هذا العام. كان العمل الحقيقي حينها هو إعادة بناء اقتصاد البلاد المحطم وتشكيل حكومة جديدة. وفي سبيل تحقيق ذلك وصل إلى العراق جيش صغير من المهندسين والمحاسبين والمستشارين تحت مظلة ما يسمى «سلطة التحالف المؤقتة»، وعُينت إدارة انتقالية بقيادة الولايات المتحدة لتدير شؤون البلاد لحين تشكيل حكومة عراقية. كان من ضمن الوافدين الجدد محامية تبلغ من العمر 33 عاما اسمها فرن هولاند من ولاية أوكلاهوما الأميركية، وكانت مستشارة في مجال حقوق الإنسان بوكالة «سي بي إيه». قدمت هولاند مشروعا في صيف عام 2003 لتنمية المرأة في مناطق الشيعة جنوب العراق. وفي سبتمبر (أيلول) 2003، سافرت فرن إلى مدينة الكوت حيث قابلت خلود. «سوف أتذكر أول مرة قابلت فيها فرن»، بحسب خلود، أحضرت مجموعة من الفتيات كي تتحدث عن العمل الذي قدمت إلى العراق من أجله. فوجئنا بصغر سنها، لكننا لم نشعر بذلك بسبب القوة الشديدة لشخصيتها. كانت شقراء ذات شعر أصفر وودودة في طريقة تعاملها. لم يحدث أن قابلت امرأة مثلها من قبل، ولا أعتقد أن أيا منا في هذه الغرف صادف مثلها من قبل.

ما قالته هولاند للسيدات في الغرفة لم يكن أقل غرابة من هيئتها. فمع سقوط صدام حسين، وفق خلود، تأسس عراق جديد، عراق من المفترض أن ينعم بالديمقراطية والاحترام بحقوق الإنسان. ما كنا في حاجة إليه لتعزيز العراق الجديد هو أن يؤدي كل مواطن ما عليه، ومنهم نساء الكوت.

بالنسبة لخلود، كان لتلك الكلمات صدى عميق داخل خلود، فتلك هي اللحظة التي طالما انتظرتها طيلة حياتها. بدأت خلود بعد ذلك مباشرة في أداء عمل تطوعي متعلق بمشروع هولاند لحقوق المرأة. «فكرت في كل تلك الأمور في السابق في عهد صدام حسين، وكانت أشبه بالخيالات»، وفق خلود، «والآن أصبحت أرى لنفسي مستقبلا». كانت هولاند أقل ثقة، فمن خلال خبرتها السابقة في العمل في مجتمعات متحفظة، وفي غيرها ممن تسود فيها النزعة الرجولية، كانت هولاند تتشكك دائما أن الوضع في العراق مجرد مسألة وقت فقط، وكانت تتوقع أن تنتصر التقاليد سريعا على العمل الذي تقوم به. كانت تعلم أيضا أنها، كغريبة عن البلاد، يجب أن يكون دورها محدودا؛ فالمطلوب هو نساء محليات نشيطات يدفعن عملها للأمام، أي فتاة مثل خلود زيدي. وفي الشهر التالي، اختارت هولاند خلود كي تكون ممثلة في مؤتمر للقيادة النسائية، عقد تحت إشراف هيئة «سي بي إيه». وفي المؤتمر، تلقت خلود خبرا سارا وهو اختيارها ضمن الوفد النسائي الذي سيتوجه إلى واشنطن للمساعدة في صياغة الدستور العراقي الجديد. تسبب انتشار خبر كهذا أثناء المؤتمر في حركة ارتجاعية. «احتج الكثير من النساء في المؤتمر بدعوى صغر سني»، وفق خلود، مضيفة «أنا نفسي كنت أرى أن هذا الاختيار أكبر مني، لكن فرن أصرت». قالت فرن للنساء الأخريات إن «خلود تمثل شباب العراق وسوف تذهب»، فقد كانت هولاند الداعم الأكبر لي. وفي خلال الرحلة التي قامت بها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) (تشرين ثاني) 2003، قابلت الفتاة الجامعية التي لم يتعدَ عمرها 23 عاما آنذاك مع عدد من كبار المسؤولين منهم الرئيس جورج بوش. وعند عودتها، كانت قد عُينت رسميا في منظمة «سي بي إيه» كمدير مساعد للمكتب الإعلامي بمدينة الكوت. كان إنجازا كبيرا لشابة صغيرة لم تكن حتى عام واحد مضى تتطلع لأكثر من الحصول على وظيفة مترجمة بشركة أجنبية ببلدها. «كانت فترة مثيرة»، وفق خلود، «إذ أنني كنت أرى كل شيء يتغير من حولي بسرعة».

في 8 مارس (آذار) 2004 تم توقيع الدستور المؤقت الجديد للعراق، وكان البند الذي حدد هدفا بأن تشغل النساء ما نسبته 25 في المائة من المقاعد في البرلمان المقبل، يحسب بشكل كبير للضغط الذي مارسته فرن هولاند من وراء الكواليس.

في المساء التالي، كانت سيارة من طراز «دايو» تحمل ثلاثة من الموظفين المدنيين بسلطة الائتلاف المؤقتة تتحرك على طريق إقليمي سريع عندما تحركت سيارة «بيك أب» تابعة للشرطة العراقية بموازاته، ونتيجة لتعرضها لوابل من النيران من أسلحة رشاشة، انعطفت السيارة لتتوقف على جانب الطريق، ويترجل الرجال من شاحنة الشرطة ليقوموا بتصفية ضحاياهم ببنادق هجومية. قتل الثلاثة جميعا بإطلاق النيران الكثيف، ليكونوا أول موظفين مدنيين بسلطة الائتلاف المؤقتة الذين يتعرضون للاغتيال في العراق. شمل هذا السائق والشخصية التي من المفترض أنها كانت المستهدفة بالهجوم، فرن هولاند.

في أعقاب اغتيال هولاند، سرت حالة من الهلع بين آلاف الموظفين المدنيين بسلطة الائتلاف المؤقتة الموزعين في أنحاء العراق. قالت خلود الزيدي: «كنا جميعا في حالة صدمة، بطبيعة الحال. لكن أعتقد أننا كنا ننتظر كذلك لنعرف ماهيته، إذا كان هجوما على فرن تحديدا، أم أنه سيكون شيئا أكبر».

جاءت الإجابة سريعا، وبالتزامن مع تنامي التمرد السني في وسط العراق، خلال الشهور الأولى من عام 2004، كان رجل دين شيعي في بغداد، هو مقتدى الصدر، يطالب بانسحاب كل قوات التحالف من البلاد. وفي مطلع أبريل (نيسان) أطلق الصدر العنان للميلشيا التابعة له (جيش المهدي) في جهد لتحقيق هذا الانسحاب من خلال سلسلة من الهجمات المنسقة ضد الجيش ومنشآت سلطة الائتلاف المؤقتة. جاء دور الكوت في 5 أبريل (نيسان) عندما بدأ نحو 200 من عناصر «جيش المهدي» هجوما على مجمع لسلطة الائتلاف المؤقتة.

قضت خلود ساعات محاصرة في المكتب الإعلامي لـ«سي بي إيه»، فيما بادلت قوات التحالف المكلفة بحماية المجمع المهاجمين إطلاق النار. وفي النهاية، جاء مشرف الـ«سي بي إيه» إلى خلود وقال: «إذا لم تكوني خائفة، فيجب أن تذهبي».

ومع اثنين آخرين من العمال المحليين، نجحت خلود في الخروج من المجمع، عن طريق أروقة جانبية، لتتمكن من الهرب. ولما أصبح مجمع الـ«سي بي إيه» مهجورا في أعقاب ذلك، فقد ظلت مختبئة، فيما كانت ميليشيا «المهدي» التي تسيطر على الكوت الآن تبحث عن أي من موظفي الـ«سي بي إيه» المحليين الباقين. وحتى بعد استعادة القوات الأميركية السيطرة على المدينة، ظلت خلود مختبئة، وفي حالة من الرعب الشديد لدرجة أنها لم تبارح منزل العائلة لأسبوعين. غيرت انتفاضة «المهدي» تدفق الأحداث في العراق جذريا، وزادت كل من الميليشيات السنية والشيعية هجماتها ضد قوات التحالف، لتكون البداية الحقيقية لحرب العراق. وعلى الرغم من هذا، فقد استمرت الـ«سي بي إيه» في برنامجها للتنازل عن السيطرة على العراق لحكومة مركزية جديدة. في مايو (أيار) بدأ آخر المدنيين الأجانب المقيمين في الكوت الانسحاب، وفي غضون شهرين، أصبحت البنية التحتية لفرع الـ«سي بي إيه» المحلي تحت سلطة الحكومة الجديدة في بغداد.

ولبعض الوقت بدا أن هذا هدأ المخاوف في بلدة خلود، بما فيه الكفاية لأن تتعهد بمواصلة المبادرات المطالبة بحقوق المرأة التي بدأها المعلم المقتول. في ذلك الخريف ساعدت على تأسيس منظمة غير حكومية صغيرة تسمى «البتول». كانت أهدافها متواضعة. أوضحت خلود: «في الكوت أقلية من السكان المسيحيين. ومن ثم كانت فكرتي توحيد السيدات المسيحيات والمسلمات من أجل العمل على مشروعات مهمة لكلا المجتمعين. وكانت المنظمة معنية بالأساس بتعليم السيدات كيفية الدفاع عن حقوقهن، وأن تظهر لهم أنه ليس عليهن دائما أن يطعن ما يقوله الرجال».

لكن مع تعمق الطائفية وانتشارها في أنحاء العراق، باتت الميليشيات السنية والشيعية على السواء تنظر إلى المسيحيين على نحو متزايد على أنهم «كفار»، ومن ثم قاموا بترويع المسيحيين الذين بدأوا في ترك البلاد بشكل جماعي، في خروج أدى في النهاية إلى تقلص عددهم في العراق بما يزيد على الثلثين. والأكثر من هذا أن مصدر التمويل الوحيد المتاح لمشروع مثل منظمة مثل «البتول»، كان من المحتلين الأجانب، وهو ما مكن المتشددين من إدانتها كجبهة تعمل في خدمة العدو. وعلى الفور تقريبا، بدأت خلود بتلقي تهديدات مجهولة؛ بسبب مواصلة عملها حول «المسائل الأميركية»، وهي التهديدات التي تصاعدت إلى حد أنها أدينت بالاسم في إحدى الجرائد.

تتذكر خلود، التي تبلغ الآن 36 عاما، تلك الفترة وقد خيمت على وجهها ملامح حزن وتأمل. تقول: «أرى الآن أنني كنت ساذجة تماما، لأنني لم آخذ الوضع على محمل الجد كما كان ينبغي، لكن إحساسي وقتذاك هو أنني أعمل على أشياء يمكن أن تعطي السيدات حياة أفضل، فكيف أكون تهديدا؟».

في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، أغلق مكتب «البتول» في الكوت. لم ترتدع خلود، واستأجرت مكتبا ثانيا، ليتعرض إلى النهب بدوره. وفي يناير (كانون الثاني) من ذلك العام، وبينما كانت تحضر ورشة تدريبية حول حقوق الإنسان في عمان، عاصمة الأردن المجاورة، تلقت تهديدا: إذا عاودت العمل في الكوت، فستقتل. مكثت بالأردن لثلاثة أشهر، لكن في أبريل نيسان 2005 – بعد عام على مقتل مستشارة حقوق الإنسان فرن هولاند، ومع تحول القتال في العراق الآن إلى حرب طائفية، تسللت خلود أخيرا إلى بلدتها، تدرك الآن أن هذا القرار كان متهورا. «كان من الصعب للغاية أن أتخلى عن هذا الحلم للعراق بداخلي»، تقول خلود وهي تتذكر كيف قالت لها هولاند إنه «لإحداث التغيير، يستلزم هذا أناسا شجعان، وأنه أحيانا يكون عليك أن تضغط بكل قوة. حسنا.. لم أكن أرغب في أن أموت، لكن فرن ماتت، وأعتقد بأنني تمسكت بهذا الأمل لدرجة أنني واصلت المحاولة، عسى أن تتحسن الأمور».

بعد وقت قصير من عودتها إلى الكوت، ذهبت خلود إلى مركز الشرطة المحلي لتقديم بلاغ عن تعرض مكتبها للنهب، لتجد ردا مستهترا. وتلقت إشارة أخرى تنذر بالسوء عندما التقت بواحدة من زميلاتها القدامى بمنظمة «البتول». سألتها السيدة: «لماذا عدت إلى هنا؟ يعرف الجميع أنك تعملين لصالح السفارة الأميركية». وجاء اتهام زميلتها في أعقاب طلب استدعاء بالمثول في مقر الميليشيا المحلية. وتقول: «عندها رأيت أخيرا أن لا فرصة لي في العراق، وأنني لو واصلت بعد ذلك فسيقومون بقتلي من دون شك».

وفي الوقت الذي كانت فيه خلود تخطط للهروب من العراق في أبريل 2005، كانت ليلى سويف تصعد معارضتها لديكتاتورية حسني مبارك في مصر.

وفي ذلك الوقت أيضا، كانت ليلى وزوجها، أحمد سيف، أكثر زوجين معارضين محل إشادة وإجماع في مصر على مدى ما يزيد على عقد من الزمن، ويمثلان صداعا دائما لحكومة مبارك. وكان أحمد قد صار منذ خروجه من السجن في 1989 أبرز محام حقوقي في البلاد، والمدافع عن طيف من المتهمين في قضايا سياسية الطابع شملت أساتذة جامعات من اليساريين ومتشددين، عندما قابلته أول مرة في الخريف، كان أحمد مشاركا فيما قد يعد أكثر القضايا إثارة للجدل في مسيرته، إذ كان يدافع عن مجموعة من الرجال المتهمين بالاشتراك في تفجير فندق في 2004، في شبه جزيرة سيناء، أدى إلى مقتل 31 شخصا.

ومن جهتها، وبينما كانت تحتفظ بوظيفتها كأستاذة للرياضيات بجامعة القاهرة، اكتسبت ليلى سويف شهرة كواحدة من قادة «الشارع» الذين لا يعرفون التعب، والمتمرسة على عدد لا يحصى من المسيرات ضد الحكومة. وكان من دوافعها لهذا، إدراكها بأنها، بصفتها من أفراد طبقة المهنيين القاهريين، فإنها تتمتع بحرية المعارضة التي كانت حراما على الفقراء وأبناء الطبقة العاملة في مصر. تقول إنه «تاريخيا، كان هذا يضفي درجة من الحصانة – لم تكن قوات الأمن فعلا تحب العبث معنا، لأنهم كانوا يعرفون مستوى اتصالاتنا في هرم السلطة – لكن ذلك كان يعني أيضا أن علينا مسؤولية، أن نكون صوتا لمن لا صوت لهم. وساعدني كوني سيدة أيضا. في هذه الثقافة، لا يتم التعامل بهذه الجدية مع السيدات، ومن ثم فهذا يسمح بأن تقوم بأعمال لا يستطيعها الرجال».

لكنها أيضا كانت تدرك تماما أن نشاطها – وتسامح الحكومة معه وهي تجز أسنانها – مناسب تماما لاستراتيجية فرق تسد التي عمل بها حسني مبارك منذ تولي السلطة في 1981. في الماضي، كانت الحكومات المصرية تتمكن من كسب دعم الجميع من كل الأحزاب من خلال اللعب بورقة مناهضة الغرب ومناهضة إسرائيل، لكن أنور السادات بدد هذه الورقة بتوقيعه اتفاقية سلام مع إسرائيل، وانضمامه لقائمة متلقي الأموال الأميركية. انطوت الاستراتيجية الجديدة على السماح بمستوى موسع من المعارضة السياسية في صفوف الطبقة الحضرية الصغيرة المتعلمة، فيما يتم التحرك سريعا لسحق أي إشارة على نفوذ متزايد لمن هم أكثر عددا بكثير – ومن ثم، الأكثر خطورة – وهم الإسلاميون.

وفي تقدير ليلى، فإن ما أدى إلى ضعف هذه الاستراتيجية في النهاية هو انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ضد إسرائيل في سبتمبر (أيلول) 2000، ومع اعتقاد المصريين على مشاربهم كافة أن حكومتهم باعت الفلسطينيين مع اتفاقية السلام في 1979. فجأة أصبح مبارك لا حيلة له في إسكات المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، خشية أن يبدو خادما أكبر لأميركا. توضح ليلى: «للمرة الأولى، بدأنا ننظم صفوفنا بشكل مكشوف وعلني من دون أخذ أي إذن من الحكومة ومن دون أي غطاء من أي مما يسمى بالأحزاب السياسية المشروعة. وما الذي كان بوسع الحكومة أن تفعله حيال ذلك؟ أسس هذا لنمط – لا تنتظر الإذن، لا تتطلع لأي حزب سياسي قائم لتنضم له، كل ما عليك هو التنظيم – الذي استخدمنا مرات ومرات كثيرة بعد ذلك».

وفي وقت قصير، باتت مظاهرات الشوارع مظهرا ثابتا في الحياة المصرية. وكان الأكثر ضررا من وجهة نظر الحكومة، أن الغضب تجاه الوضع في فلسطين بث الحيوية في جماعات المعارضة من أنحاء الطيف السياسي لتنظيم المسيرات والعمل المشترك.

وفي وجود هذه الديناميكية الجديدة، كان آخر ما يحتاج إليه حسني مبارك هو تذكير آخر للشعب المصري بولائه لواشنطن، لكن عندئذ جاء قرار الولايات المتحدة بغزو العراق.

وبينما كان مبارك داهية بما فيه الكفاية ليعارض هذا الغزو في العلن، وأن ينهمك في محاولات دبلوماسية رفيعة المستوى لمحاولة منعه، فإنه لم يكن قادرا على الإفلات من عواقبه. في عيون كثير من المصريين، بعد 23 عاما جنى فيها المكاسب من الأميركيين، كان الديكتاتور مجرد دمية في أيديهم للدرجة التي لا يستطيع معها التظاهر بالاستقلال الآن. وقد زادت هذه النظرة الهزلية مع امتداد الحرب في العراق وارتفاع الحصيلة اليومية من القتلى.. من 2002 وحتى بداية 2005، كان عدد من أكبر المظاهرات المناهضة للحرب في العالم العربي تحدث في شوارع القاهرة، وكانت ليلى سويف في الخطوط الأمامية في كل واحدة منها تقريبا. تقول: «بالطبع على المستوى الظاهري كانت احتجاجا على ما يجري في العراق، لكنها كانت تعكس فشل مبارك أيضا».

في الوقت نفسه لم يساعد مبارك نفسه بما يكفي، حيث قام بسلسلة من المبادرات التي زادت تأجيج المعارضة. في 2005، قام مبارك الذي كان يجهز نجله جمال لخلافته، بهندسة تعديلات دستورية على رغم سماحها ظاهريا بانتخابات رئاسية مباشرة، فإنها تلاعبت بالنظام لتأييد هيمنة حزبه السياسي. في الانتخابات الرئاسية في سبتمبر (أيلول) من ذلك العام، فاز مبارك بفترة رئاسية خامسة مدتها 6 سنوات، بما يقرب من 89 في المائة من الأصوات، بعد إلقائه القبض على المرشح البارز الوحيد تقريبا الذي ترشح ضده.. أيمن نور. بعد ضغوط متزايدة في بلاده وفي الخارج، خفف مبارك تدخله في الانتخابات البرلمانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، لا لشيء إلا أن يرى الإخوان المسلمين، وكانوا لا يزالون محظورين سياسيا، يحصلون على 20 في المائة من مقاعد البرلمان، وهي نسبة غير مسبوقة.

وبحلول أواخر 2005، عندما قضيت 6 أسابيع سافرت خلالها في أنحاء مصر، كان الغضب المتزايد من الحكومة واضحا في كل مكان. وللتأكيد، كان الكثير من أسباب هذا النفور ناجما عن الركود الاقتصادي والفساد الذي مكن حفنة صغيرة من الساسة والجنرالات من أن يصبحوا أغنياء بصورة لا يمكن تخيلها – ذكرت تقارير أن أموال عائلة مبارك وحدها تصل إلى مليارات – لكن مشاعر العداء القوية لأميركا كانت من مكونات هذا الغضب كذلك، وأشارت إلى حالة انفصال عميقة عن النظام. في الوقت نفسه الذي كان ينظر فيه إلى مصر في واشنطن كواحدة من أكثر حلفاء أميركا الذين يمكن الاعتماد عليهم في العالم العربي، ويعود هذا بشكل كبير لعلاقاتها مع إسرائيل، فعلى مدار عشرات المقابلات مع مصريين من كل التيارات السياسية والدينية تقريبا، أخفقت في أن أجد شخصا واحدا فقط يؤيد التسوية السلمية مع إسرائيل، أو يرى في الدعم الأميركي لحكومة مبارك، الذي كان يصل آنذاك إلى ملياري دولار سنويا، أي شيء سوى مصدر خزي وطني. وكما قال لي عصام العريان، نائب مرشد الإخوان المسلمين بوضوح: «السياسة الوحيدة في مصر الآن هي سياسة الشارع، وكل من يعمل مع الأميركيين يكتب حكم إعدامه السياسي بيديه».

مع انغماس خلود الزيدي إلى عالمها الجديد الذي فتحته لها فيرن هولاند، استمرت خلود غير مدركة أن بذور الخراب الذي جلبه الغزو الأميركي قد وضعت.

ففي طائراتهم الحربية العراقية، رسم البنتاغون خططا شاملة توضح المنشآت الاستراتيجية الحكومية والوزارات المفترض الاستيلاء عليها أو رقابتها، بيد أن الأميركيين لم ينتبهوا كثيرا لترسانة الأسلحة والذخائر التي نشرها صدام حسين في مختلف أرجاء البلاد. فقد جرى نهب تلك المخازن بلدة تلو الأخرى، أحيانا تحت سمع وبصر جنود التحالف الذين لم يتدخلوا فيما جرى.

بدت سلطات التحالف وكأنها قد وافقت على هذا الخطأ. ففي خطوة تبدو الآن فاجعة، كان أول الإجراءات التي اتخذها بول برايمر أول حاكم مدني للعراق مدير هيئة «سلطة الائتلاف الوطني المؤقتة»، تفكيك الجيش العراقي، وعليه جرى تسريح مئات الآلاف من الرجال الذين تلقوا تدريبا عسكريا على استخدام السلاح، وكان ذلك في صيف 2003.

كان ذلك القرار بحل الجيش سببا فيما حل من خراب بعد ذلك. فبحسب القرار رقم 1 الصادر عن هيئة «سلطة الائتلاف الوطني المؤقتة»، فقد جرى فصل أعضاء حزب البعث من مناصبهم الحكومية ووضعوا تحت حظر شعبي يمنعهم من تقلد أي منصب مدى الحياة. وخضع جميع المسؤولين في الدوائر العليا للتحريات للتأكد من عدم انتمائهم لحزب البعث.

وبحسب المنتقدين، فقد أجبر مئات الآلاف من أصحاب الكفاءات والمتخصصين العراقيين، مثل علي الزيدي، والد خلود، في السابق على الانضمام لحزب البعث في التسعينات، في إطار حملة واسعة أمر بها صدام حسين. الآن كل هذه الأعداد من المدرسين والأطباء والمهندسين أصبحوا مهددين بالإقصاء.

وصل تأثير القرار رقم سالف الذكر لما هو أبعد من أعضاء حزب البعث المستبعدين. ففي العراق، كما هو الحال في أغلب دول الشرق الأوسط، فإن الهيئات الحكومية تدار بطريق الوصاية بحيث يجري تعيين جميع الموظفين، ابتداء من كبار الموظفين حتى السعاة ممن يقدمون المشروبات في المكاتب من قبل المدير العام، وهو بالتأكيد عضو سابق في زمن صدام حسين، وما حدث بالتأكيد هو أنه قام بتعيين أفراد عائلته وقبيلته الكبيرة. إذ ماذا يعنى فصل نحو 85 ألف عضو بحزب البعث من العمل؟ بالتأكيد يعنى تشريد عدد لا حصر له من الناس والتسبب في إفقار عشائر وقبائل بالكامل.

ورغم كل هذا التخبط، لم تتفجر نتائج الاحتلال حينها، لكن بشائره ظهرت في أغسطس (آب) 2003 عندما جرى تدمير مبنى الأمم المتحدة في بغداد بشاحنة مفخخة، ليلقى 22 من العاملين في المبنى، من بينهم مبعوث الأمم المتحدة الخاص في العراق سيرجيو فييرا، حتفهم. توالت التفجيرات بعد ذلك ضد قوات التحالف. وبحلول عام 2004، أدركت «سلطة الائتلاف المؤقتة» وجود عداوة عميقة لمبادراتهم، وهو ما أقلق فيرن هولاند. ففي رسالة بالبريد الإلكتروني أرسلتها إلى صديقتها في نهاية يناير (كانون الثاني) من نفس العام، قالت فيرن: «نبذل كل ما في وسعنا في الوقت القصير المتبقي، فالمكان بات رهيبا، تمني لنا التوفيق، وتمني للعراقيين التوفيق أيضا».

المصدر: مجلة «نيويورك تايمز»

 

شاهد أيضاً

كيف تفكك العالم العربي؟ (10): سكان العراق وسوريا بين فكي «داعش» وويلات الهجرة

واشنطن: سكوت أندرسون تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي …