كيف تفكك العالم العربي؟ ( 5): بنغازي ومصراتة ساحة المعارك الليبية المستوردة من الخارج

واشنطن: سكوت آندرسون

نواصل  لليوم الخامس على التوالي نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي بعد غزو العراق»، في تحقيق استقصائي مطول لمجلة «نيويورك تايمز» كتبه سكوت أندرسون وبعدسة باولو بيليغرين، وفي الحلقة الثالثة اليوم يركز التحقيق على قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق الذي كان بداية الخراب على المنطقة قبل 13 عاما، مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي وبزوغ أزمة النازحين العالمية. وقدمت مجلة «نيويورك تايمز» تحقيقها الاستقصائي في خمسة أجزاء وهي «الجذور» و«حرب العراق» و«الربيع العربي» و«صعود داعش» و«الهجرة الجماعية».. وتحكي التطورات التي شهدتها المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، مرورا بالحروب الطائفية ثم اندلاع ثورات الربيع العربي وصعود التنظيمات الإرهابية في المنطقة. وتمنح قصة أندرسون المؤلفة من أكثر من 40 ألف كلمة على مدار 18 شهرا من العمل الصحافي الميداني القارئ إحساسا عميقا بالخراب والكارثة وكيف تكشفت أماراتها من خلال عيون ست شخصيات من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق.

في الحلقة الخامسة اليوم التي تنشرها «الشرق الأوسط»، يتحدث المؤلف آندرسون عن الأوضاع في ليبيا من خلال حالة الناشط مجدي المنغوش، وهو من مدينة مصراتة التي أدت في النهاية إلى تفجر الثورة التي أطاحت بالقذافي. يقول: «الحصار المفروض على المدرسة الثانوية بطرابلس كان أفضل حالا وأقل قسوة من الحراسة المشددة التي فرضت على أكاديمية القوات الجوية، فعن طريق الحراس كانت بعض الأخبار تتناهى إلى مسامع الطلاب عن المعارك الدائرة في بلادهم. ورغم ما قيل من أن عصابات إجرامية ومرتزقة أجانب هم من أشعلوا الاضطرابات لحساب القوى الغربية المعادية لليبيا، فإنه قيل لهم إن بعض العناصر المخدوعة من أبناء البلاد قد انضمت لهم وتعمل على نشر الفوضى. وبحلول شهر مارس (آذار) تجلت التصرفات الإجرامية المستوردة من الخارج في أوضح صورها في مدينتي مصراتة وبنغازي، لتصبحا ساحتين للمعارك.

لم تشكل تلك الأخبار مفاجأة لمجدي، ففي منتصف مارس كانت بالفعل الطائرات الحربية الغربية التابعة لقوات التحالف قد بدأت في الظهور والتحليق فوق طرابلس لتقصف المنشآت الحكومية، وكان من شأن ذلك تأكيد أن البلاد تتعرض لهجوم من الخلف. ومن الطبيعي أن يقلق ذلك الوضع مجدي وجلال بشأن مستقبل بلدهما؛ بل ويتساءلان: ترى مَن من زملائهما قد انضم للخونة؟ (تحدثنا في هذا الأمر كثيرا)، وفق مجدي، مضيفا: (خالد كان مجنونا إلى حد ما.. أراهن أنه انضم لهم).

بدا كأن الطلاب بدأوا يكسبون ثقة النظام، فقد انتقلت تلك المجموعة الكبيرة من الطلاب إلى قاعدة عسكرية في منتصف أبريل (نيسان) الماضي وبدأوا في التدريب على التحكم في منصات إطلاق الصواريخ. لم يجر اختيار مجدي أو جلال لتلك المهمة، وامتدت إقامتهما في المدرسة الثانوية. وفي أحد الأيام في بداية شهر مايو (أيار) صادف مجدي أحد معارفه القدامى بتلك الثكنات، اسمه محمد، ويعمل ضابطا في الاستخبارات، فقد أراد الحديث إلى مجدي عن مدينة مصراتة. دخل الاثنان في حوار طويل، وسأله محمد عن مناطق مختلفة في المدينة وعما إذا كان من حقهم معرفة قادة مسؤولي المدينة من المدنيين. لم يفكر مجدي في الحوار كثيرا، لكن بعد ذلك بأيام معدودة، وفي وقت الظهيرة تلقى استدعاء بالحضور لمقر قيادته؛ حيث أبلغ بأنه قد تم اختياره ضمن الطلاب الذين سيتلقون تدريبا على تشغيل منصات الصواريخ، ثم تحركت في الحال السيارة الجيب التي ستقله إلى القاعدة، ولم يكن هناك وقت أمام مجدي ليودع صديقه جلال.

غير أن سائق الجيب لم يصطحبه إلى القاعدة العسكرية، وبدلا من ذلك سار به على الطريق الدائر حول طرابلس، ثم إلى الطريق الساحلي، ثم اتجه شرقا.

وبحلو المساء، وصلا الديوانية، آخر بلدة قبل مصراتة وآخر الحدود الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث اقتيد مجدي إلى منزل صغير تحيط به مزرعة وقيل له إن شخصا ما يريد أن يتحدث عبر الهاتف. على الطرف الآخر كان محمد، ضابط الاستخبارات. وبحسب محمد، فقد جرى اختيار ضابط القوات الجوية الشاب للقيام (بمهمة بطولية خاصة). كان عليه التسلل إلى مصراتة لمعرفة قادة التمرد وتحديد مكان معيشتهم. فبمجرد أدائه هذه المهمة، سوف يرسل بالمعلومة إلى ضابط اتصالات سرى داخل مصراتة يدعى أيوب. وللتواصل مع أيوب، تسلم مجدي هاتف ثريا يعمل عن طريق القمر الصناعي ورقم هاتف للاتصال به.

وعند سماعه طبيعة المهمة، خطر على بال مجدي فكرتان: الأولى عن أصدقائه في بلدته، فبعد سماعة عن اشتعال القتال في مصراتة، توقع أن يكون بعض أصدقائه قد انضموا للجانب الآخر، وإن نفذ المهمة، فقد يتسبب في موتهم.

الفكرة الأخرى كانت عن الحوار الذي دار مؤخرا مع جلال بعدما استيقظ جلال من نومه مكتئبا ليخبره أنه رأى حلما فظيعا، واحتاج لبعض الوقت ليسترجع تفاصيله.. (حلمت بأننا أرسلنا إلى مصراتة)، قالها جلال بصعوبة، مضيفا: (وأنك قُتلت). مرت لحظات التردد سريعا، ففي عالمه الصغير داخل الأكاديمية العسكرية بطرابلس لم يكن مجدي يسمع سوى ما أراد النظام أن يسمعه، وإن لم يصدق كل ما سمع، فكان يصدق فقط ما يجعله يهزم أعداء البلاد من الأجانب وأتباعهم الذين يريدون تدمير ليبيا، حتى وإن كان من بينهم بعض معارفه.

ربما كان كل ما يتمناه أن يخرج من هذا السجن، فقد عاش فيه لثلاثة أشهر متصلة منقطعا عن أهله ومعزولا عن العالم الخارجي. كل ما أراده ببساطه أن يرى شيئا مختلفا يحدث، أي شيء، ولهذا السبب وافق. وفي صبيحة اليوم التالي، ودع مجدي رفاقه في المزرعة واتجه وحده إلى المنطقة المحرمة، إلى مصراتة التي تبعد 10 أميال شرقا. وضع مجدي بطاقة هويته العسكرية في الجيب الأمامي الأيمن لسرواله الداخلي، لكن إن أوقفته المعارضة المسلحة، فسوف تضعه تلك البطاقة في مشكلة كبيرة، فقد انتشر عدد كبير من الجنود التابعين للحكومة خارج ثكناتهم، وكون مجدي من مصراتة سوف يعطي مصداقية لكلامه عندما يقول إنه عائد إلى بيته. لكن للهاتف الجوال المتصل بالقمر الصناعي بجيبه الأيسر وضع مختلف، فمع انقطاع الاتصالات عبر الإنترنت والهاتف الجوال، أصبح هاتف الثريا وسيلة التواصل الأساسية لعناصر النظام الذين يعملون على الأرض. وفي حال اكتشف المسلحون الهاتف بحوزة مجدي، وهو أمر مؤكد الحدوث في ظل عمليات التفتيش، فسوف يدركون بكل تأكيد أنه قد حضر إلى مصراتة جاسوسا. وفي ظل هذه الحالة سوف يكون الإعدام السريع أفضل أمانيه وأكثرها رحمة.

ومع مواصلة المسير كان صوت الرصاص يتعالى ويزداد كثافة، وكان صوت قذائف المدفعية يُسمع على فترات. ولكن بسب الرياح الخفيفة وطبيعة أرض مصراتة التي اتخذت شكل تلال متتابعة كالأمواج، كان من المستحيل لمجدي أن يحدد المسافة التي تفصله عن أي منها أو حتى اتجاهها. إلا أنه حاول أن يتذكر شيئا ما تعلمه خلال التدريبات الأساسية، وهي أن أكثر الأصوات إزعاجا في أرض المعركة ليست طلقات الرصاص، ولكن صوت الفرقعة الناعم الذي يشبه صوت طرقعة الأصابع. هو هذا الصوت نفسه الذي يحدثه الهواء عندما يمر خلف الرصاصة، وستسمعه فقط عندما تمر الرصاصة بالقرب من رأسك.

لا يتذكر مجدي سوى القليل عن تلك الرحلة، لا يتذكر كم استغرقت، لكن بحسب تقديره، فقد سار لثلاث ساعات، وربما استغرقت زمنا أقل، وربما ضعف هذه المدة. لحظة واحدة فقط هي التي ثبتت في ذاكرته، فبعد نصف المشوار عبر الأرض المحرمة، شعر مجدي بأنه امتلأ فجأة بإحساس ممتع لم يشعر به من قبل.. (في الحقيقة، لا أستطيع أن أصف ذلك، لم يخالجني هذا الشعور من قبل، لكنني شعرت بسعادة غامرة في كل شيء، وشعرت بسلام مع كل شيء)، بحسب مجدي، الذي وقف صامتا للحظات يبحث عن تفسير. أضاف: (أعتقد لأنني كنت في المكان الذي ابتعدت فيه عن ظلال الآخرين. لم أخن أصدقائي بعد، شعرت بحرية طوال الوقت الذي قضيته هناك).

شأن مجدي المنقوش في ليبيا، كان مجد إبراهيم في البداية يراقب عن بعد الاضطرابات التي تحدث في المنطقة. لم تنجح الديكتاتورية السورية في إخفاء أخبار الثورة في تونس ومصر عن شعبها، بل تحدثت عنها بشكل صريح لكن بشيء من الاعتداد بالنفس.. (ظروفنا تختلف عن غيرنا من البلاد)، قالها الرئيس بشار الأسد بثقة لصحيفة (وول ستريت جورنال) في 31 يناير (كانون ثاني)، مضيفا: (لكن على الرغم من ذلك، فإن سوريا مستقرة، لماذا؟ لأنك يجب أن تكون قريب الصلة من نبض الشارع وما يعتقده الناس).

وبعد فترة من المقابلة الشخصية، التزم الإعلام السوري الحكومي الصمت التام بشأن الموضوع برمته. غير أنه في بداية مارس، بالكاد ذكر الإعلام السوري المسيرات التي جابت شوارع مدينة درعا الجنوبية، والتي جاءت اعتراضا على حملات الاعتقال والتعذيب التي تعرض لها مجموعة من طلاب المدارس بعد أن كتبوا عبارات مناهضة للنظام على جدران الشوارع. (سمعت عما حدث في درعا، من خلال صفحات التواصل الاجتماعي، من خلال فيسبوك ويوتيوب)، بحسب مجدي.

سمع مجد عن مسيرة التضامن التي كانت مقررة باسم (يوم الكرامة) أمام مسجد خالد ابن الوليد بوسط مدينة حمص في 18 مارس، لكنه أخذ بنصيحة والدية بالابتعاد عن تلك المظاهرة. بيد أن مجد سمع من خلال الأصدقاء أن بضع مئات من المتظاهرين قد ظهروا، وأن عددا مماثلا من ضباط الشرطة ورجال الأمن قد راقبوهم. كانت القصة صادمة للطالب الذي يبلغ من العمر 18 عاما، فلم يرَ شيئا مثل هذا من قبل.

كانت تلك المسيرة أقل كثيرا من تلك التي جابت الشوارع الأسبوع التالي، فالأعداد تقدر بالآلاف هذه المرة. شعر مجد ببعض الأمان وسط كل تلك الحشود واستطاع الاقتراب ليسمع هتافاتهم التي نادت بإجراء إصلاحات سياسية، وإلغاء حالة الطوارئ المفروضة على سوريا منذ 48 عاما. وفي 30 مارس ألقى الأسد خطابا أمام البرلمان السوري نقله التلفزيون والإذاعة الرسمية على الهواء. ورغم انتشارها في عدد من المدن السورية، فإن المظاهرات سارت بشكل سلمي بدرجة كبيرة، ونادى المحتجون بتغيير في النظام، لا الإطاحة به. ونتيجة لذلك، بافتراض أن النظام قد تعلم من درس انهيار النظامين في تونس ومصر، وانتشار الفوضى العارمة في ليبيا، توقع كثيرون أن يأخذ الأسد منحى تصالحيا.

اعتمدت تلك التوقعات على شخصية الأسد أيضا، ففي الأحد عشر عاما التي حكم فيها البلاد بعد وفاة والده، عمد طبيب العيون المتواضع على الإيحاء بعمل كثير من الإصلاحات غير الحقيقية.. فبصحبة زوجته بريطانية المولد، أسماء، حاول خلق وجه معاصر يخفي خلفه استبداد النظام السوري. فمع القبضة الحديدية المفروضة على البلاد، لم يتغير سوى القليل، فالشرطة السرية لا تزال منتشرة في كل مكان، و(الدولة العميقة) – المتمثلة في الطبقة الحاكمة الأبدية من البيروقراطيين والشخصيات العسكرية – استمرت في يد الأقلية العلوية. وخشي العلويون وكثير من الأقلية المسيحية في سوريا من أن أي حل وسط مع المتظاهرين قد يشعل ثورة سنية يتبعها زوالهم.

وبعد تقديم مسكنات عن الإصلاحات المستقبلية، استخدم الأسد خطابه البرلماني في اتهام المخربين في الشوارع بمساعدة (العدو الإسرائيلي)، موجها تحذيرا شديدا لهم. قال الأسد في كلمته إن (وأد الفتنة واجب قومي وأخلاقي وديني، وكل من لا يساهم في وأدها يعتبر جزءا منها)، مضيفا: (لا توجد حلول وسط). كان من الملاحظ أثناء الخطبة أن الجميع حافظ على تقليد موروث منذ زمن حافظ الأسد، وهو مقاطعة أعضاء البرلمان لكلمة الرئيس بشكل متكرر بالوقوف والوثب عاليا للتعبير عن غرامهم الأبدي بالرئيس وامتنانهم له.

وبحسب ذاكرة مجد، نوع من الهدوء غير المريح سيطر على حمص بعد خطاب الأسد. فلا تزال هناك احتجاجات متفرقة في البلدة، وكانت هناك الشرطة وقوات الأمن المسلحة بأسلحة ثقيلة، لكن بدا كأن الجميع لا يدرى ما الخطوة التالية.. فقد كان كل طرف مرعوبا، ربما من قيادة الناس لحرب مفتوحة كتلك التي تستعر نيرانها في ليبيا.

انتهى المشهد بشكل وحشي، ففي 17 أبريل 2011، وفق ما بثته قناة (الجزيرة)، كانت هناك مجموعة صغيرة من المتظاهرين لا يزيد عددهم على 40، تتظاهر خارج مسجد في حمص، وتوقفت بعض السيارات إلى جوارهم، وخرج منها بعض الرجال؛ إما أنهم رجال شرطة بملابس مدنية، أو بعض من شبيحة النظام، وفتحوا النار على المتظاهرين ليقتلوا على الأقل 25 ممن وجدوا على مقربة منهم.

بدا المشهد وكأنك سكبت البنزين على نار مشتعلة، ففي تلك الليلة تجمع عشرات الآلاف من المتظاهرين في ساحة (ميدان الساعة) بوسط المدينة. في هذا التوقيت اعتلى أفراد الشرطة والشبيحة أسطح العمارات المجاورة لفتح النار عليهم.. (كانت تلك اللحظة التي تغيير فيها كل شيء)، وفق مجد.. (فقبل ذلك كانت مظاهرات، وبدءا من يوم 17 أبريل أصبحت ثورة). ومع كل قتيل يقتل كل يوم أصبحت الجنازات في اليوم التالي مظاهرات يتجمع فيها مزيد من المحتجين للانطلاق في الشوارع. وكان رد الفعل الوحشي لقوات الأمن سببا لمزيد من الشهداء. ونتيجة لذلك، كانت الجموع الغاضبة تزداد، ومعها مزيد من القتلى في الجنازة التالية. وفي بداية مايو، ازدادت حدة العنف بوتيرة متسارعة للدرجة التي جعلت الجيش السوري يأتي لحمص بأعداده الغفيرة ليغلق مداخل المدينة.

فوفق مجد؛ (لا يثق أحد في قوات الأمن)، مشيرا إلى حجم أجهزة المخابرات وأفراد الشرطة في ملابس مدنية المنتشرين في المدن السورية.. (لكنننا كنا نتمنى مجيء الجنود، حتى أنا، لأننا اعتقدنا أنهم سيؤتون لحماية حلب ووقف القتال، وهو ما كان. فقد حضر الجيش بدباباته ومعداته، لكنهم لم يستخدموها، وانتهى القتال في الحال).

كان أول إنسان تقع عينا مجدي المنغوش عليه لدى وصوله للضواحي الغربية لمصراتة، صبي صغير، يبلغ 8 أو 9 سنوات، يلعب في الوحل. أما المنازل المحيطة، فكانت مهجورة وتبدو عليها آثار التعرض لقذائف. إلا أنه لاحظ بعد فترة وجود سيارة تقف في ظل جدار أحد المنازل الريفية.

وسأل مجدي الصبي: (هل والدك هنا؟ هل يمكن أن تصطحبني إلى والدك؟).

داخل المنزل الريفي، التقى مجدي والد الطفل، كان في الثلاثينات من عمره، وبدت عليه إمارات الصدمة والريبة العميقة حيال هذا الشخص الغريب الذي ظهر فجأة في أرض قاحلة مهجورة. من ناحيته، أعاد مجدي على مسامع الرجل القصة التي يتخفى وراءها: أنه انشق عن النظام ويحاول الوصول لأسرته. وقد ساعده في هذه الخديعة لقبه، ذلك أن جميع سكان مصراتة يعرفون عشيرة المنغوش. وعليه، هدأ روع الرجل، وعرض على مجدي توصيله إلى المدينة.

ورغم كل ما نما إلى مسامعه بخصوص القتال الدائر في مسقط رأسه، فإن مجدي لم يكن مستعدًا لمواجهة الواقع. منذ أواخر فبراير (شباط) 2011، تعرضت مصراتة لحصار متزايد من جانب القوات الحكومية، وأصبح أهلها معتمدين على نحو شبه كامل على أي إمدادات غذائية وطبية يمكن نقلها بحرًا. وفي تلك الأثناء، أمطر الجيش المدينة بقذائف المدفعية، في الوقت الذي خاض فيه جنوده قتالاً ضد المسلحين من شارع إلى آخر، ومن فرد لآخر، تمامًا مثلما وعد القذافي. ومع بدء الضربات الجوية للتحالف الغربي، تراجعت حدة الحصار بعض الشيء، لكن بعد أن أصبح حجم الدمار الذي لحق بالمدينة مروعًا.

وفي كل أنحاء المدينة، رأى مجدي أبنية دمرتها قذائف الدبابات أو أتت عليها النيران، وبلغ الدمار حدًا جعله يعجز ببعض المناطق عن تحديد في أي شارع يقف.

ووصل مجدي بالسيارة إلى خارج منزل أسرته بمعاونة الرجل الذي التقاه بالمنزل الريفي. ويتذكر مجدي هذه اللحظة، قائلاً: (مررت عبر الباب الأمامي، وكان أول من رأيته بالمنزل شقيقتي، ثم زوجة شقيقي وأبناء شقيقي). وقاوم مجدي دموعًا اندفعت من عينيه، وقال: (كانت قد مرت ثلاثة أشهر على آخر مرة رأيتهم فيها. وكانت الهواجس قد ساورتني بأنني لن أراهم مجددًا).

قضى مجدي بقية اليوم في الحديث لأفراد أسرته، وعلم بأنه بعد أن سقط والده مريضًا، خرج والداه من المدينة مع سفينة للإجلاء الطبي متجهة إلى تونس. وعلم كذلك أن القائمة المحلية من (الخائنين) للنظام من سكان المدينة لم تضم أصدقاء قدامى له فحسب، وإنما امتدت إلى أفراد من أسرته. في الواقع، أوى شقيقه الأكبر، محمد، على مدار أسابيع عدة مجموعة من الطيارين المنشقين من القوات الجوية بمنزله. وبدا أن الجميع انضموا إلى الثورة وأصبحوا مصممين الآن بعد ما عاينوه من دمار في مصراتة، على المضي معها حتى النهاية.

وعند لحظة ما خلال جلوسه مع أسرته، أستأذن مجدي للذهاب إلى غرفته القديمة. وهناك، أخرج (الثريا) من جيبه وخبأه أسفل الفراش. وقال: (لم أكن أدري ما الذي سأفعله، كل ما دار بذهني حينها أنه يتحتم علي إخفاء الهاتف).

على مدار الأسبوع التالي، تجول ابن مصراتة العائد عبر أرجاء المدينة المدمرة، حيث التقى بأصدقاء، وعلم بأمر من قتلوا ومن أصيبوا. وخلال ذلك، أدرك أن كل ما سمعه وصدقه فيما يخص الحرب لم يكن سوى كذبة. لم يكن هناك مجرمون، ولا جنود مرتزقة – على الأقل ليس في صفوف المسلحين – وإنما لم يكن هناك سوى أشخاص مثل أفراد أسرته، يسعون بدأب للتخلص من نظام استبدادي.

بيد أن هذا الإدراك وضع مجدي في موقف بالغ الحساسية، ذلك أن أيوب، همزة الوصل بينه وبين جهاز الاستخبارات، لا بد أنه علم بشأن وصوله لمصراتة وينتظر منه تقديم تقرير إليه. لبعض الوقت، راودت مجدي فكرة التخلي عن (الثريا) والمضي قدمًا كما لو أن شيئًا لم يحدث، لكنه فكر بعد ذلك في التداعيات التي ستمس أسرته إذا ما انتصر النظام في نهاية المطاف، أو ماذا سيحدث لو أن المسلحين اكتشفوا خلية التجسس المتعاونة مع النظام داخل المدينة وظهر اسمه بينها؟

في مواجهة هذه الاحتمالات، تفتق ذهن الطالب العسكري بالقوات الجوية عن فكرة أفضل كثيرًا؛ وأكثر خطورة. في منتصف مايو، قدم نفسه لمجلس الميليشيا المحلية المعارضة للنظام وكشف لهم كل شيء. ومثلما أدرك مجدي جيدًا، فإن مسألة وضع جاسوس محتمل نفسه تحت رحمة العدو وقت الحرب ليس رهانًا جيدًا على الإطلاق؛ ذلك أن الحل الأسرع والأنسب أمام المسلحين سيكون سجنه أو إعدامه، ومع ذلك، فإنه في مواجهة هذه النتيجة، أقدم على عرض جريء.

صباح اليوم التالي، اتصل مجدي أخيرا بأيوب، الشخص الممثل لنظام الذي يتعامل معه، واتفقا على لقاء بينهما بعد يومين في مبنى سكني خال بقلب المدينة. خلال ذلك الاجتماع، اقتحمت مجموعة من المسلحين المعارضين المبنى وسرعان ما ألقت القبض على الرجلين. بعد ذلك، جرى وضع مجدي وأيوب في سيارتين مختلفتين لنقلهما إلى السجن. بحلول وقت إعلان مجلس المعارضة المسلحة إلقاءه القبض على (اثنين من جواسيس النظام) في مصراتة، كان مجدي قد عاد بالفعل لمنزل أسرته.

ورغم أن هذا الموقف مر بسلام، فإنه بقيت هناك إمكانية لوجود عملاء آخرين للنظام على علم بمهمة مجدي، مما يخلق خطورة أمامه فيما يخص التجول عبر أرجاء المدينة. وعليه، استغل أول فرصة سانحة للفرار إلى تونس لزيارة والديه.

بالنسبة لمجدي، الذي كان يبلغ 24 عامًا حينذاك، كان النقيض الذي بدت عليه تونس – بما تحمله من ملامح عصرية ومسالمة – مقارنة ببلاده، رحلة أخرى من الحيرة. وقال مجدي عن الفترة التي قضاها هناك: (كان الجو شديد الهدوء لدرجة أن الأمر استغرق مني بعض الوقت حتى أصدق أن هذا حقيقي).

كان باستطاعة مجدي البقاء في تونس بسهولة، وكان هذا بالتأكيد ما يرغبه والده، لكن بعد أسابيع قلائل، أصابه القلق والتوتر؛ الأمر الذي تفاقم بسبب شعوره بأن دوره في الحرب الدائرة ببلاده لم ينته. وقال: (أعتقد أن جزءًا من ذلك كان نوعا من الانتقام. لقد كنت مع الجيش، لكنهم كذبوا علي وتلاعبوا بي. وبطبيعة الحال، لم تكن الحرب قد انتهت بعد، وكان الناس لا يزالون يتقاتلون ويموتون. وعليه، أخبرت والدي بأنه ليس ثمة خيار أمامي.. تتحتم علي العودة إلى الوطن).

في مصراتة، سرعان ما أصبح مجدي ناشطًا مع ميليشيا محلية، (فيلق ذي قار)، استعدادًا للتوجه إلى معقل القذافي في طرابلس. إلا أنه قبل أن يتمكن من المشاركة هناك، انهارت القوات الحكومية في العاصمة، وتراجع الديكتاتور وما تبقى من أنصاره إلى سرت، مسقط رأس القذافي وموطن قبيلته. وهناك، وفي ظل تعرضهم للحصار وبينما وقفوا والبحر من وراء ظهورهم، شنوا معركة أخرى يائسة. وعلى مدار شهر، سيطرت الوحدة التي عمل مجدي في صفوفها على جزء من سرت يتداخل مع الطريق السريع، مما مكنها من قصف معاقل النظام والاشتباك من حين لآخر في تبادل لإطلاق النيران في أي لحظة يحاول فيها الجنود المحاصرون الفرار. ومثلما الحال في مواقف أخرى أثناء الحرب الليبية – بل ومثلما الحال مع غالبية الحروب – كان القتال داخل سرت أمرًا قد يستمر لأجل غير مسمى.

بدلا من هذا، انتهى الأمر بشكل مفاجئ للغاية في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2011. في صبيحة ذلك اليوم، اندلع قتال عنيف في الجزء الغربي من سرت، أبرزته سلسلة من الغارات الجوية التي شنتها مقاتلات التحالف؛ ومن مكانه على الطريق الجانبي، شاهد مجدي ألسنة نيران هائلة ودخانا كثيفا يتصاعد من انفجارات القنابل حول المدينة. ونحو الساعة الثانية صباحا، نشبت اشتباكات صغيرة أخرى مركزة بالأسلحة النارية في الأحياء الغربية، استمرت قرابة 20 دقيقة، قبل أن يهدأ الوضع. في البداية، ظن مجدي ورفاقه أن الهدوء يعني استسلام القذافي ورجاله، لكن سرعان ما وصلت أنباء أفضل حتى من ذلك: وقع الديكتاتور نفسه في الأسر وقتل. يتذكر مجدي قائلا: (هللنا جميعا واحتضن بعضنا بعضا. لأننا كنا نعرف أن هذا يعني أن الحرب انتهت. بعد كل عمليات القتل تلك – وبعد 42 عاما من حكم القذافي – وصل عهد جديد إلى ليبيا أخيرا).

ومع انتهاء القتال، عاد مجدي إلى مصراتة، وانتقل إلى وحدة تابعة لإحدى الميليشيات تتناسب أكثر مع شخصيته: طاقم إسعاف يقوم بنقل المصابين من أصحاب الحالات الخطيرة من مستشفيات مصراتة إلى المطار من أجل الحصول على علاج طبي متقدم في الخارج. كان سعيدا جدا بهذا العمل، الذي شعر بأنه أظهر دليلا ملموسا على التعافي بعد كثير من الوفيات والدمار، وعزز تفاؤله تجاه المستقبل.

بعد ذلك وفي أحد أيام ديسمبر (كانون الأول) في مطار مصراتة، استقبل مجدي زائرا. كان سامح الدريسي، الشقيق الأكبر لصديقه جلال، وكان قد سافر 500 ميل من بنغازي ليطلب منه خدمة. كانت الثورة الليبية انتهت منذ ما يزيد على الشهرين، لكن كانت أخبار جلال انقطعت عن عائلة الدريسي منذ مايو. وكان ذلك التواصل السابق عبارة عن مكالمة هاتفية قصيرة من المدرسة الثانوية في طرابلس، حيث كان تم عزل طلبة القوات الجوية، وكان هذا بعد أيام قليلة على مغادرة مجدي ليتولى مهمته الاستطلاعية في مصراتة.

انطلق مجدي، الذي غير مساره مرة أخرى، في البحث عن صديقه المفقود، بإصرار انتهى إلى حالة من القلق. بعد عودته إلى طرابلس، قضى أسبوعين في محاولة الوصول إلى عدد من زملائهما الأكاديميين، واستطاع من خلالهم، إزالة، على الأقل، جزء من الغموض الذي يلف مصير صديقه. في مايو 2011، كان جلال ضمن مجموعة من نحو 20 من الطلبة في مدرسة طرابلس الثانوية، الذي تم جمعهم وإبلاغهم بأنه سيتم إرسالهم لمساعدة القوات في الخطوط الأمامية، مع تقدمها في مواجهة الثوار في مصراتة، من خلال الكشف عن القنابل التي سبق أن تم زرعها، وحماية خطوط الاتصال والإمداد. بدلا من هذا، تم استخدام هؤلاء الطلبة طُعما هناك؛ إذ تم دفعهم إلى أرض مفتوحة ليتعرضوا لإطلاق النار والقصف، فيما ظل جنود النظام الأكثر تمرسا في مواقعهم يراقبون مصادر نيران العدو. ومع سقوط الواحد تلو الآخر في هذه المهمة الانتحارية، نجح جلال واثنان من رفاقه في الوصول إلى مزرعة بعيدة، وهناك توسلوا إلى أحد المزارعين لنقلهم جنوبا، بعيدا عن ساحة القتال؛ وبدلا من هذا خان المزارع التلاميذ وسلمهم للقوات الأمنية الداخلية، الذين سلموهم بدورهم إلى الجيش مباشرة. وبعد موجة ضرب، أعيد الثلاثة من جديد إلى الفرقة الانتحارية. لكن ذلك كان هو أبعد مدى وصلت إليه القصة. بعد وقت قصير، قام جلال وزميلاه بمحاولة هروب ثانية – نجحت هذه المرة – لكن كان جلال انتقل آنذاك إلى جزء آخر من الجبهة. وهذا جعل مجدي يبدأ بحثا جديدا. وجد في النهاية زميلا سابقا أكمل له فصول القصة.. في أحد أيام يونيو (حزيران)، كانت مجموعة صغيرة من الطلبة العسكريين – جلال وآخرون ممن بقوا على قيد الحياة طوال تلك الفترة – يخيمون في العراء على طريق زراعي على الأطراف الجنوبية لمصراتة، عندما وصل ضابط واستدعى الطلبة لعمل تقرير ميداني. في تلك اللحظة، ضربت قذيفة ألقتها إحدى طائرات التحالف غير المرئية أو طائرة من دون طيار، سيارة الضابط، فقتلته على الفور وقتلت معظم الطلبة الذين كانوا قريبين منه. عندما سقطت القذيفة، كان جلال جالسا تحت شجرة على مسافة 50 ياردة، لكن إحدى الشظايا وجدت طريقها إليه، فمزقت الجزء العلوي من رأسه. قام زملاؤه الناجون بدفن الجزء المتطاير من دماغ جلال تحت الشجرة، لكنهم وضعوا جثمانه في شاحنة مع القتلى الآخرين لنقلهم إلى مقبرة غير معلومة.

قال مجدي: (بالطبع ذكرني هذا بالحلم الذي راودني. نعم، كنا قد ذهبنا كلانا إلى مصراتة للقتال، لكن كان هو من مات).

ربما كان معنى ذلك نهاية البحث بالنسبة لمعظم الناس، لكن ليس لمجدي. يقول متذكرا الوقت الذي قضاه مع أسرة جلال في بنغازي، والمستشفى الذي أطلعوه عليه، إنه كان مصمما على أن يجد جثمان صديقه، فقد يتمكن من إعادته إليهم. وبعد أن دق أبواب جهات لا تحصى في عهد الحكومة الثورية الجديدة، تم توجيهه أخيرا إلى مقبرة في طرابلس، حيث تم جمع (الخونة) – ويقصدون بذلك أنصار القذافي – ودفنهم.

كانت أرضا قابضة مغطاة بالقمامة، وتبرز منها مئات المقابر. مر مجدي بطريقة منهجية على كل صف، لكن اسم جلال لم يكن موجودا. أخيرا وصل إلى ركن بعيد من المقبرة، حيث رأى قبرا مكتوبا عليه (مجهول). شعر مجدي بدفقة من الإثارة، فقد خطر له أنه بالنظر إلى الإصابة المروعة في رأس جلال، ربما كان من المستحيل التعرف على هويته، لكنه لاحظ عندئذ، 3 مقابر أخرى بالكلمة نفسها (مجهول). وبالعودة إلى مكتب المقبرة، طلب الصور التي تم التقاطها للجثامين المجهولة قبل دفنها: كانت وجوه الأربعة جميعا مشوهة بشكل مروع لا يمكّن من التعرف عليهم.

ظل مجدي مقتنعا بأن جلال واحد من هؤلاء الأربعة. نقل الخبر إلى أسرة الدريسي، وبعد عدة أشهر طار إلى بنغازي ليقابلهم شخصيا. قال: (كان لقاء مؤثرا جدا. واعتذرت لهم عن عدم تمكني من الوصول إلى جثة جلال).. توقف عن الكلام في لحظة حزن، ثم عاد سريعا ليقول: (إذن هكذا هو الأمر. جلال في واحدة من تلك المقابر الأربع بالتأكيد)».

المصدر: مجلة «نيويورك تايمز»

 

شاهد أيضاً

كيف تفكك العالم العربي؟ (10): سكان العراق وسوريا بين فكي «داعش» وويلات الهجرة

واشنطن: سكوت أندرسون تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي …