كيف تفكك العالم العربي؟ (الحلقة الأخيرة): «داعش» ليس تنظيمًا بل «فكرة»

واشنطن: سكوت آندرسون

تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي بعد غزو العراق»، التحقيق الاستقصائي المطول الذي أعدته مجلة «نيويورك تايمز»، وكتبه سكوت آندرسون، وبعدسة باولو بيليغرين.

يركز التحقيق على قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق قبل 13 عامًا، مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي، وبزوغ أزمة اللاجئين العالمية. قدمت المجلة القصة في خمسة أجزاء، هي: «الجذور»، و«حرب العراق»، و«الربيع العربي»، و«صعود (داعش)»، و«الهجرة الجماعية»، من خلال عدد ملحمي يحتوي على أكثر من 40 ألف كلمة، واستغرق إعداده نحو 18 شهرًا. يحكي قصة ما وصفته بـ«الكارثة التي كسرت العالم العربي»، وكيف تكشفت علاماتها من خلال عيون ستة أشخاص من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق.

قالت المجلة في مقدمة عددها «الاستثنائي» إن «جغرافية الكارثة واسعة وأسبابها متعددة، ونتائجها الحرب وعدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم». وتصاحب قصة آندرسون 10 تغطيات مصورة بواسطة المصور بيليغرين، وهي مستمدة من رحلاته المكثفة عبر المنطقة خلال الـ14 عامًا الماضية، تعطي إحساسًا عميقًا بالكارثة. في الحلقة الحادية عشرة والأخيرة اليوم يروي شهود من العراق ملاحظاتهم حول تنظيم {داعش} والحرب الخفية في كردستان بين الزعيمين جلال طالباني ومسعود بارزاني.

عند رؤية القرية العربية تمتد أمامنا على الطريق، أوقف عازار ميرخان السيارة، وقال سبابًا بالكردية. لقد كان مكانًا بائسًا مدمرًا، فعلى الجانب الأيسر تمتد مجموعة من المنازل، والجدران المبنية بالطوب الطيني، وعلى الجانب الأيمن، كانت هناك أربعة أو خمسة منازل ريفية على التل. وكان المشهد الثاني هو الذي جذب انتباه الدكتور.

أخذ عازار يحملق لوهلة بحقد في المنازل الريفية، معبرًا عن غضبه من التوغل العربي، وقال قبل أن يحول ناظره باتجاه مركز القرية: «إنهم منتصرون؟ كيف تم السماح بذلك؟». لم نر أيًا من أهل القرية، لكن كنا نرى بعض السيارات القديمة مصطفة هنا وهناك في ظلال الجدران.

وتوجه عازار إلي، وعلى شفتيه ابتسامة كئيبة ثقيلة، وقال: «هل ترى ذلك؟ منذ أسبوعين، كان تنظيم داعش يسيطر على هذه القرية، ولم يكن لدى الناس الذين يعيشون فيها مشكلة معه، فقد بقوا ولم يغادروا. لقد فقدنا أربعة من أفراد البيشمركة هنا». وأضاف متسائلاً: «هل تعلم ماذا كنت لأفعل؟ كنت لأذهب إلى أحد العرب وأطلب منه استعارة الجرافة الخاصة به، ثم أستعين بمستشار إسرائيلي، فهم بارعون في مثل هذه الأمور، وخلال يومين، أو ثلاثة أيام أمحو هذا المكان من الوجود».

لدى عازار نزعة لاستخدام العبارات الغاضبة الثائرة، وأحيانًا أجد من الصعب معرفة إلى أي مدى هو جاد في تلك اللحظات، لكن ذلك الصباح، لم أكن أشك كثيرًا في صدقه. كان 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، بعد ستة أشهر من زيارتي الأولى مع عازار، وكنا نسير على طريق العودة إلى سنجار، البلدة الإيزيدية، التي ارتكب فيها «داعش» الفظائع، في صيف 2014. خلال الأشهر الفاصلة، كان عازار يتوجه إلى خندق على خطوط المواجهة الأمامية لقوات البيشمركة في سنجار للتدريب على التصويب على مقاتلي داعش، الذين كانوا يتمركزون في خندق مقابل على بعد 40 ياردة فقط، لكن استعادت قوات البيشمركة، بمساعدة الهجمات الجوية الأميركية المكثفة، البلدة أخيرًا. وشارك عازار في المعركة، وأدخلته رحلة العودة في حالة من الكآبة.

ازداد اعتلال مزاجه عندما وصلنا إلى سنجار، فقد باتت البلدة، التي كان يسكنها نحو 100 ألف قبل الحرب، حطامًا. في الوقت الذي كانت قوات البيشمركة تبحث فيه عن أي فخاخ، مهدت طريقًا ضيقًا وسط الحطام، ويظهر هنا، وهناك رفات بعض مقاتلي «داعش» المتعفنة. كان حجم الدمار، الذي لحق بسنجار، هائلاً إلى حد يجعل من الصعب التفرقة بين ما تدمر على أيدي محاربي «داعش» الغزاة أثناء احتلالهم للبلدة، وما تمت تسويته بالتراب في المعركة التي اندلعت منذ أسبوعين، لكن كان هناك شكل ما. في دوران مروري صغير في قلب البلدة، دمر «داعش» المنارة التي ظلت صامدة أمام الزمن لأكثر من 800 عام. كذلك هدموا كل معبد إيزيدي في سنجار، إلى جانب الكنيسة الوحيدة. ظل المستشفى الموجود في قلب البلدة قائمًا، لكن فقط لأن «داعش» حوّله إلى مركز، وثكنات للقناصة، لعلمه أن الطائرات الحربية الأميركية لن تقصفه. مع ذلك دمروا كل المعدات الطبية، بل ودعسوا على مقاييس الحرارة، والأمبولات الزجاجية.

مع ذلك كان لسياسة «داعش» في التطهير العرقي في أحياء سنجار السكنية طابع من العهد القديم. في شارع تلو الآخر، ظلت بعض المنازل قائمة، إلى جانب أخرى متهدمة صارت أكوامًا من الحجارة المكسورة، والقضبان الفولاذية الملتوية. كان العامل المشترك بين كل المنازل القائمة رسائل مكتوبة بدهان رش على الجدران الخارجية، وكل منها بمعنى «هناك أسرة عربية تسكن هنا». أصرّ عازار على أن مقاتلي «داعش» لم يكتبوا تلك الرسائل، بل الأهالي أنفسهم. وقال: «كانت هذه هي رسالتهم إلى (داعش): اعفوا عنا، فنحن معكم، نحن لسنا أكرادًا. ومثلما كان الحال في تلك القرية، ظل العرب هنا».

رحل هؤلاء السكان العرب الآن، فقد هربوا بعدما بدأت الهجمات الجوية الأميركية معلنة عن المعركة المقبلة. في عدة شوارع سكنية، كان بعض الإيزيديين، الذين عادوا، يسيرون وسط المنازل العربية، يجمعون بعض الأسرة المنهوبة، وقطع الأثاث، ويحملّونها على شاحنات. وقال عازار معلقًا: «لم لا؟ لقد خسروا كل شيء».

ازداد الشعور بالرعب عندما اقتادنا اثنان من مقاتلي البيشمركة إلى حقل قاحل على أطراف البلدة، بالقرب من خطوط المواجهة الأمامية الجديدة. في الطرق الأقصى من الحقل كان هناك مهندسون من البيشمركة يقطعون خندق دبابات، بينما ظل مقاتلو «داعش» على بعد بضعة أميال باتجاه الجنوب، لكن نحو الأعلى، كانت هناك ثلاثة أكوام غير منتظمة تحيط بمياه جارية موسمية. من هذه الأكوام برز الأثر القاطع على وجود ساحة للقتل بما فيها من عظام بشر، وجماجم، وأحذية مغطاة بالطين وحلقات من القماش المربوط بعضه بعضًا ليستخدم كعصابات للعينين. وعلى مدى الـ15 شهرًا الماضية، خرجت بعض رفات المقابر من تحت الأرض بفعل الأمطار، بحيث بات المجرى المائي مليئًا بملابس نساء، وأحذية، وأسنان. لم يتم التنقيب في أي من القبور بعد، حيث كانت السلطات بانتظار فريق الطب الشرعي، لكن بحسب أفضل التقديرات، كانت هذه أرض لتنفيذ عمليات إعدام بحق نحو 300 إيزيدي، أكثرهم من النساء اللائي أعمارهن لا تناسب أن يصبحن إماء لـ«داعش، ومن أطفال أصغر من أن يتم استغلالهم.

ظل عازار يسير بين القبور صامتًا لمدة نصف ساعة، لكني لاحظت أن غضبه يزداد، ثم بدأ يبكي. اتجهت نحوه لأطمئن عليه، وأسأله عما إذا كان يريد المغادرة، لأجده يستدير فجأة، ويشير بأصبعه نحو الجزء المرتفع من جبل سنجار الذي يقع على بعد نحو 4 أميال باتجاه الشمال.

قال الدكتور وصوته يموج بالغضب: «كانت قوات البيشمركة هناك بالأعلى، وأنزلهم (داعش) إلى هنا لقتلهم حتى نشاهدهم. لقد فكروا في الأمر، وفعلوا ذلك عمدًا لإهانتنا».

عاد عازار إلى وسط سنجار، وهو يمشي بخطى سريعة نحو الباحة التي لا تزال قابلة للسكن، وأشار إلى مسؤول بارز ليتبعه نحو المصطبة. على مدى الساعة التالية، ظل الاثنان منخرطين في محادثة عميقة، مشيرين إلى أن أيًا من أفراد البيشمركة ما إن يوشكوا على الاقتراب حتى يبتعدوا في تلك اللحظة. بعد ذلك اعتذر عازار لي لأنه استغرق كل ذلك الوقت.

وقال: «لقد أخبرته أنه يجب عليه تدمير كل منازل العرب هنا، لكنه كان مترددًا، حيث يعتقد أن من الأفضل إعطاءها للإيزيديين العائدين، لكني قلت له إن بعض العرب سوف يعودون في النهاية، ومعهم عقود ملكية المنازل، وسيحاولون استرداد منازلهم، لذا من الأفضل تدميرها، بحيث لا نخلف لهم أي شيء يعودون إليه ليبدأوا من جديد. لقد بات يدرك ذلك الآن».

عندما سألت ما إذا كان يعتقد أن المسؤول سوف ينفذ خطته بالفعل أم لا، أومأ عازار بالإيجاب قائلاً: «لقد وعدني، لقد جعلته يعدني بذلك».

في مساء ذلك اليوم، صعدنا الطريق المنعطف، الذي يقود إلى خارج البلدة، أعلى جبل سنجار، وهو الطريق ذاته الذي قطعه عشرات الآلاف من الإيزيديين المرعوبين في رحلتهم الأليمة المرعبة في أغسطس (آب) 2014. وكانت هناك بطول الطريق أكوام من الملابس، المهترئة وحائلة اللون، التي تركها أصحابها وهم يركضون. وتمتم عازار وهو ينظر إلى الحطام قائلاً: «كان هناك المزيد في كل مكان».

وبعد صعودنا إلى قمة الجبل، وصلنا إلى سهل واسع مرتفع يمتد بطول 25 ميلاً. وكانت هناك مخيمات تضم الآلاف من العائلات الإيزيدية، التي ليست لديها منازل تعود إليها، منتشرة على تلك الأراضي. تاريخيًا لم يكن قلب المجتمع الإيزيدي المناطق المنخفضة، التي فر منها هؤلاء الناس أخيرًا، بل الجبال التي يخيمون فوقها الآن، وهناك أعلى التلال المحيطة بالمدن، التي كونوها من الخيام، كانت تقبع آثار وبقايا قرى أجدادهم، والمصاطب الخضراء التي كونتها الطبيعة المهجورة منذ زمن طويل، ومنازل منهارة من الطوب الطيني. لقد سكن الأهالي بعض هذه المناطق لنحو ألف عام، لكن في سبعينات القرن الماضي، أرسل صدام حسين جنوده لتدميرها في إطار حملته المناهضة للأكراد. وترك الإيزيديون منذ ذلك الحين الجبل، وهبطوا نحو الأراضي المنخفضة، التي كان من السهل رؤيتهم فيها، لذا كان من السهل على «داعش» ذبحهم فيها بعد أربعة عقود من ذلك التاريخ.

حتى وقت قصير مضى، كانوا يسخرون من عازار بوصفه كارهًا للأجانب، بل ومتعصبًا، نظرًا لآرائه الانفصالية الراديكالية، لكن عند رؤية ما أسفرت عنه وحشية «داعش»، وعند تأمل تجليات الكراهية في الشرق الأوسط على مدى السنوات القليلة الماضية، بدأ بعض المراقبين يعتقدون أن طريقته المتشددة قد تجدي نفعًا، أو لتحري الدقة قد تقدم طريقًا وحلاً للخروج من هذا المستنقع. اليأس، الذي سكن نفوس عدد متزايد من الدبلوماسيين، والجنرالات، ورجال الدولة، من استحالة جمع شتات دول المنطقة، جعلهم يفكرون في الفصل العرقي، والعنصري الذي يؤيده عازار. ومن قبيل المصادفة أن يجدوا أن النموذج الذي يتطلعون إليه لتطبيق ذلك هو إقليم كردستان.

ظل إقليم كردستان لمدة 25 عامًا إقليمًا ديمقراطيًا مستقرًا تابعًا للعراق اسمًا فقط. وقد يكون الحل هو محاكاة هذا النموذج في باقي أنحاء العراق، لإنشاء دولة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، بدلاً من المقسمة إلى جزأين الآن، بحيث يحصل السنّة على «حكومة إقليمية سنية»، تتمتع بكل المزايا التي يتمتع بها الأكراد حاليًا، وهي وجود رئيس للدولة، وحدود داخلية، وحكم عسكري ومدني مستقل ذاتي. يمكن للعراق كدولة أن تظل على الورق، ويتم الخروج بآلية تضمن تقسيم عائدات النفط على الأجزاء الثلاثة بالتساوي. وإذا نجح هذا النموذج في العراق، يمكن أن يصبح حلاً مستقبليًا لليبيا المقسمة، أو سوريا المفككة.

مع ذلك، حتى مؤيدي هذا الطرح يقرّون بأن مثل هذا الفصل لن يكون سهلاً، فكيف سيتم التعامل مع السكان «الممتزجين» في مدن مثل بغداد، أو حلب؟ وهناك كثير من العشائر المقسمة إلى شيعة وسنة في العراق، وفي ليبيا، العشائر مقسمة بشتات جغرافي يعود إلى قرون مضت. هل لهؤلاء الناس أن يختاروا الذهاب مع قبيلة، أو طائفة أو وطن؟ تشير وقائع مماثلة في التاريخ إلى أن مثل هذا المسار سيؤدي إلى التناحر، والقتل، حيث يمكن تأمل سياسة تفكيك النزعة نحو تكريس القومية الألمانية بعد الحرب في أوروبا الشرقية، وتقسيم شبه القارة الهندية عام 1947، لكن رغم هذا البؤس، وعدد الضحايا المحتمل لتحقيق ذلك، قد يكون هذا هو أفضل خيار متاح للحيلولة دون تورط الدول الفاشلة في الشرق الأوسط في مزيد من أعمال الذبح الوحشية. مع ذلك، المشكلة هي أنه بمجرد أن يبدأ هذا التقسيم، سيكون من الصعب رؤية إلى ما ينتهي، فأسفل الانقسامات العرقية والدينية، التي أظهرها الغزو العراقي، والربيع العربي، هناك انقسام قبلي، وعشائري، ومن هذا المنطلق لا يبدو إقليم كردستان نموذجًا، بل رسالة تحذيرية.

بسبب التنازع بين القبيلتين في إقليم كردستان، يوجد في دولة صغيرة لا تزيد مساحتها عن مساحة ولاية فيرجينيا الغربية، اثنان من كل شيء: قائدان، وحكومتان، وجيشان. وفي هذه اللحظة يغطي تهديد «داعش»، والرغبة في توحيد الجبهة صوريًا أمام العالم الخارجي، هذا الانقسام، لكنه يظل قابعًا تحت كل شيء. كذلك يفسر كثيًرا المصير المؤسف للإيزيديين، فكما أوضح عازار، أي أحمق كان ليدرك إلى أين كان يتجه «داعش» في أغسطس 2014، لكن بسبب وجود الإيزيديين خارج نطاق سلطة إقليم كردستان، نظرًا لعدم تحالفهم التاريخي مع أي من الفصيلين المتنازعين، تُركوا ليدافعوا عن أنفسهم. رغم كل الأعذار والتبريرات، التي قدمها السياسيون والجنرالات في إقليم كردستان، تظل الحقيقة، التي لا يمكن إنكارها، هي أن سنجار لم تكن لتشهد ما شهدته لو كان أهلها من قبيلة بارزاني، أو طالباني.

وما الذي سيحدث في إقليم كردستان عندما يتراجع الخطر الحالي؟ إذا استعنا بالتاريخ مرشدًا لنا، سوف يزداد الانقسام بين عشيرة بارزاني وعشيرة طالباني، وقد يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية جديدة، فجزء من التاريخ الخفي السري لهذا المكان هو سلسلة من المعارك الطاحنة، التي شنتها القبائل على بعضها، منذ اتصال بعضها بعضًا للمرة الأولى، وتاريخ من الدماء، التي سالت من الطرفين، تعود على الأقل إلى نصف قرن من الزمان، وتمتد إلى منتصف التسعينات. إنه تاريخ خفي تعرفه عائلة ميرخان جيدًا عن تجربة شخصية.

من خلال عدد كبير من المحادثات مع أشقاء ميرخان، سمعت الكثير عن مآثر، وشخصية الفردين من أفراد العائلة اللذين خسرا روحيهما في صفوف البيشمركة، ودخلا سجل الشهداء الأكراد، وهما أباهم هيسو، وشقيقهم علي. ما لم أسمع عنه كثيرًا، وما تكتم عليه الأشقاء بشدة وبشكل يدعو للذهول، هو الظروف، والملابسات الحقيقية لموتهما. وبعد إلحاح طويل، كشف عازار أخيرًا عما تأكدت منه بشكل مستقل منفصل من مجموعة كبيرة من أعداء الأكراد الخارجيين، وهو أن فصيلاً منازعًا في قوات البيشمركة هو من قتل هيسو، وعلي ميرخان.

قال عازار حين سألته عن سبب تردده في الكشف عن هذه المعلومات: «من العار أن يقتل الأكراد بعضهم بعضًا. في ظل وجود كل هؤلاء الأعداء، كيف يمكننا أن ننقلب ضد بعضنا بعضًا؟».

سؤال رائع، لكنه سؤال من الأرجح طرحه مرة أخرى في كل أنحاء الشرق الأوسط المتفكك، أيًا كان مدى، وعمق تلك الانقسامات الرئيسية، والفرعية.

في النقطة الوسطى على هضبة سنجار، أظهر منحنى على الطريق فجأة قرية مميزة على أقصى جانب من النهر: مجموعة من المنازل على تل وعر، وأسفلها عدد من المصاطب الحجرية القديمة. كان ارتفاع بعض جدران تلك المصاطب يزيد على 20 قدمًا، مما دفع السكان إلى حفر أي قطعة صغيرة من أرض صالحة من الجبل، بنيت في زمن يسبق اختراع الآلة، خلال فترة طويلة قد تكون قد وصلت إلى عقود. وباتت المنازل مهجورة الآن، وأسطحها تحمل آثار نيران جنود صدام حسين، لكنهم قد تركوا المصاطب وحيدة.

قال عازار وهو ينظر إلى القرية: «لابد أن المكان كان جميلاً حينها، مثل حديقة غنّاء».

بالنسبة إلى عازار، كان الماضي مفيدًا لما يخبرنا به عن المستقبل، وكان يشعر بالسعادة، والترقب وهو يترك سنجار وراءه. وبينما نستكمل المسير على جبل سنجار، كان يدق بأصابعه على عجلة القيادة وهو يقول: «حان وقتنا الآن، فالعراق قد وصل إلى النهاية، وكذلك سوريا، والآن جاء زمننا».

* 16 شهرًا من الترحال في الشرق الأوسط

بعد 16 شهر من السفر، والترحال في الشرق الأوسط، وجدت أنه من المستحيل توقع ما سيحدث بعد ذلك، ناهيك بتلخيص ما يعنيه كل ذلك. في كل مكان ذهبت إليه مع باولو بيليغرين تقريبًا، يبدو الوضع اليوم أسوأ مما كان عليه حين بدأنا الرحلة. ما يمارس في سوريا التي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف، إضافة إلى المشكلات الموجودة بالفعل، وتتجه ليبيا الآن نحو الإفلاس. إذا كانت هناك نقطة مضيئة واحدة على الخريطة، فهي التحالف الدولي الملتزم والمتماسك، الذي يعمل حاليًا على القضاء نهائيًا على «داعش».

تذكرت لدى سماعي هذا ما أخبرني به مجد إبراهيم: «(داعش) ليس مجرد تنظيم، إنه فكرة». بطبيعة الحال هو كذلك شكل من أشكال القبيلة، وإذا تدمر هذا الكيان، ستظل الظروف، التي أدت إلى نشأته، متجسدة في جيل من الشباب الغاضب ضائع المستقبل، مثل وكاظ حسن، الذي وجد الغاية، والسلطة، والانتماء حين حمل السلاح. بإيجاز يمكن القول إن الأمور لن تتجه نحو التحسن قريبًا.

على مستوى فلسفي أكثر، ساعدتني هذه الرحلة على تذكيري مرة أخرى بمدى رقة نسيج الحضارة، وبالتيقظ والحذر اللازم لحمايته، والعمل الشاق المضني الضروري لإصلاحه حين يتمزق. ولا تعد هذه فكرة جديدة، فهي درس من المفترض أن نكون قد تعلمناه بعد ألمانيا النازية، والبوسنة، ورواندا، وقد يكون درسًا نحن بحاجة إلى تعلمه باستمرار وطوال الوقت.

في مقابل ذلك، أجد عزاء، ومواساة في قدرة الفرد الاستثنائية على التغيير، ولا يصلح أحد ممن قابلتهم أن يكون خير مثال على ذلك، سوى خلود الزيدي، فمن خلال قوة إرادتها الكبيرة، أصبحت أصغر بنات أسرة تقليدية عادية في مدينة نائية في العراق، شخصية قيادية بشكل بارز ملحوظ، وبينما تتجه نحو ذلك، أنقذت أسرتها بقدر المستطاع. وهنا أيضًا يكمن تناقض، وهو أن أشخاصًا مثل خلود، وهم من يجب أن نراهم يجمعون شتات هذه الأراضي المفككة، هم ذاتهم، والذين ينبغي أن يحصلوا على الأفضل من بلادهم، من يغادرون بلادهم بحثًا عن حياة أفضل في مكان آخر، فاليوم ما كسبته النمسا، هو ذاته ما خسره العراق.

وبينما أكتب هذه السطور، يستعيد العراقيون ببطء المدن التي استولى عليها «داعش» في مختلف أنحاء وسط البلاد، حيث تمت استعادة مدينة الرمادي في فبراير (شباط)، والفلوجة في يونيو (حزيران). ويصل التخطيط لشنّ عملية عسكرية مشتركة بين القوات العراقية، والكردية في الموصل إلى مراحل متقدمة، حيث من المتوقع أن تتم في بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول). ومن المؤكد أن دكتور عازار ميرخان سيكون له دور في تلك العملية، فبالنسبة إلى عازار، سيستمر الصراع الحقيقي، المتمثل في فصل وطنه الكردي عن العالم العربي، في أعقاب المعركة. كذلك من المتوقع أن تشهد الفترة التالية للمعركة انعدام فائدة وكاظ حسن بالنسبة إلى معتقليه، فكما أوضح مسؤول الأمن الكردي آنفًا، سيتم تسليمه إلى السلطات العراقية من أجل إعدامه.

أما في ليبيا، فلا يزال مجدي المنغوش مستمرًا في دراسة الهندسة، لكن مع تأمله للفوضى التي تعمّ بلاده، خطرت بباله فكرة جديدة، هي استعادة النظام الملكي الذي أطاح به القذافي عام 1969. وأخبرني مجدي: «ليس معنى هذا أنه حل لكل مشكلاتنا، لكن على الأقل في ظل وجود ملك، سنكون دولة». وأوضح أنه مهما كان ما سيحدث في ليبيا سيظل ملتزمًا بالبقاء، والعمل من أجل تحسين أحوال البلاد، حيث أوضح قائلاً: «أنا على استعداد لمواجهة شكل جديد من أشكال الغموض».

أما في دردسن، فقد حصل مجد إبراهيم على إقامة لاجئ، وهو ما سيمكنه من البقاء في ألمانيا لمدة ثلاث سنوات على الأقل. والآن بعد تعلمه اللغة الألمانية، يأمل أن يعود إلى الدراسة الجامعية خلال الخريف المقبل للحصول على شهادة الماجستير في إدارة الفنادق.

وفي مصر، يقضي علاء، ابن ليلى سويف، عامه الثاني من مدة حكم تبلغ خمس سنوات في السجن. وتم إطلاق سراح ابنتها سناء في سبتمبر (أيلول) 2015 بموجب عفو رئاسي، بعدما قضت 15 شهرًا في السجن. مع ذلك تم إثبات تهمة «إهانة القضاء» عليها في مايو (أيار) بسبب عدم استجابتها لطلب الادعاء العام بإجراء مقابلة معها. وبسبب حكم بستة أشهر في السجن، توجد سناء حاليًا في سجن النساء في القاهرة.

وفي النمسا، لا تزال خلود، وشقيقتها تياميم تقيمان في منزل أسرة إديلسبرنر، وحصلت كل منهما أخيرًا على منحة لدراســـة إدارة التبادل الثقــــــافي في جامعة محلية، ومن المقرر أن تبدأ الدراسة في سبتمبر .

ومنذ فترة ليست بالطويلة، توفيت والدتهما عزيزة، التي لم تغادر العراق إطلاقًا، والتي لم ترها خلود سوى مرة واحدة منذ هروبها منذ أحد عشر عامًا، في مدينة الكوت. وكان رد فعل خلود على النبأ كما هو متوقع من فتاة شابة شجاعة، حيث ضاعفت جهودها لإنقاذ باقي أفراد أسرتها؛ الأب، والشقيقة الصغرى العالقين في الأردن، وجلبهما إلى النمسا. وقالت خلود: «أكبر أحلامي هو أن أجلبهما إلى هنا، ونعود نعيش أسرة واحدة مرة أخرى».

تم عمل هذه القصـــــة، وفيلم الواقع الافتراضي «القتال من أجل الفلوجة» بدعم من «مركز بوليتزر»، الذي كتب سلسلة من خطط الدروس من مرحلة الحضانة حتى الصف الثاني عشر، وللصفوف الدراسية الجامعية، من أجل تكملتها، إنتاج لينسي فيلدز، وداني ديبلويس، وميغان لوتيت، وجيني تشوي، محررو الصور: كاثي راين، وستيسي بيكر.

المصدر: مجلة «نيويورك تايمز»

شاهد أيضاً

كيف تفكك العالم العربي؟ (9): كردستان.. واحة الاستقرار في منطقة المخاطر

واشنطن: سكوت آندرسون تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي …